دعوي قضائية مثيرة استمرت زهاء ربع قرن :
غزة كانت من ضمن ممتلكات السلطان عبد الحميد
في عام 1926 أقيمت دعوي غريبة من نوعها ، لم تكن مألوفة في القضايا الخاصة بالميراث .
صاحبة الدعوي كانت حفيدة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (الأميرة نامقة) التي كانت تعيش في المنفي بعد نفي كل منتسبي العائلة العثمانية الي خارج الحدود التركية ، و ذلك عقب اعلان الجمهورية التركية في 23 نيسان (ابريل) 1923. و قد شهدت العديد من دول العالم التي كانت تخضع للسيادة العثمانية دعاوي تتعلق بالميراث في الاموال غير المنقولة من قبل الورثة العثمانيين من افراد العائلة المالكة .
كانت اهم هذه الدعاوي ، الدعوي التي اقامتها الاميرة نامقة ابنة الامير سليم أكبر انجال السلطان عبد الحميد ، للحصول علي اراض وعقارات في غزة تعود ملكيتها إلي جدها . كانت مساحة الارض العائدة للسلطان تقع في منطقة (المحرقة الكبيرة) بغزة وتتألف من 4580 دونما . و كان محامي الأميرة نامقة هو أحد اساتذة كلية الحقوق في بيروت.
بدأ المحامى ، بالبحث والتقصي عن العقار موضوع الدعوي في سجلات دائرة العقارات في يافا التي كانت تخضع آنذاك للحماية البريطانية . و كانت هيئة من القضاة العرب و البريطانيين ينظرون القضايا بصورة مشتركة . و في الوقت الذي أيد فيه القاضي البريطاني أحقية حفيدة السلطان عبد الحميد في ملكية العقار موضوع الدعوي ، رفض القاضي العربي النظر في الموضوع قائلا لا علاقة للسلطان عبد الحميد بغزة . هذه ارض فلسطينية .
لكن الدعوي لم تنته عند هذا الحد فقد استمرت جهود ورثة السلطان عبد الحميد للحصول علي تركة جدهم علي الرغم من أن القاضي العربي في المحكمة العليا بالقدس رفض بدوره حق الورثة في التركة علي اساس أن حكومة (الاتحاد والترقي) التي عزلت السلطان عبد الحميد بعد انقلاب 1908 صادرت الأموال غير المنقولة للسلطان المخلوع ، الأمر الذي ينفي حق ورثته في المطالبة بتركة السلطان من تلك الاموال .
بعد هذا القرار من المحكمة العليا لم يعد لقرار القاضي البريطاني أية أهمية فتم علي اثره تحويل أوراق القضية بعد هذه المرحلة إلي الدائرة القانونية التابعة للمجلس الملكي البريطاني . و قد ألغي المجلس القرار الصادر من المحكمة العليا في القدس . و بعث أوراق الدعوي ثانية إلي يافا لإعادة النظر في القضية من جديد و لكن هذه المرة في القدس و ليس في يافا .
بدأ القاضي البريطاني (روبرت ويندهم) من محكمة العقارات بفتح ملف الدعوي من جديد . و استمرت الدعوي خمس سنوات . و حينما أحست المنظمة الصهيونية العالمية أن الأميرة نامقة علي وشك أن تكسب الدعوي المرفوعة ، بدأت بالاتصال بها وعرضت عليها شراء العقار موضوع الخلاف دون انتظار النتيجة و بالمبلغ الذي تحدده هي . و ذلك كمحاولة خبيثة من المنظمة الصهيونية للايعاز في حالة الموافقة علي الصفقة بأن عائلة السلطان العثماني عبد الحميد تؤيد بموافقتها علي هذه الصفقة ، هجرة اليهود إلي فلسطين واستيطانهم فيها . لكن الأميرة رفضت العرض الصهيوني ، و أعلنت أنها ستنتظر القرار النهائي للمحكمة . تماما مثلما رفض جدها السلطان عبد الحميد محاولات المنظمة الصهيونية قبل سنوات شراء أرض فلسطين منه مقابل ذهب و أموال طائلة .
و بعد 11 عاما بالتمام والكمال ، أعلن القاضي البريطاني (ويندهم) عن قراره في 17 كانون الأول (فبراير) عام 1946 . و كان القرار بمثابة ضربة قاصمة لآمال حفيدة السلطان عبد الحميد . جاء في حيثيات القرار ما يلي ان ملكية الاراضي الواقعة في غزة تعود إلي السلطان العثماني عبد الحميد . و نظرا لقيام حكومة الاتحاد والترقي بمصادرة الأموال العائدة للسلطان العثماني في 1909 و التي اصبحت اعتبارا من ذلك التاريخ ملكا للحكومة التركية فليس من حق ورثة السلاطين المطالبة بحق الميراث من تلك الأموال .
وبموجب المادة 60 من معاهدة لوزان فإن ملكية الأراضي العثمانية التي تقع حاليا خارج حدود الدولة التركية تعود إلي الدول الجديدة التي أقيمت في تلك الأراضي . و علي ضوء هذا الواقع فإن ملكية منطقة (المحرقة الكبيرة) بغزة تعود إلي الحكومة الفلسطينية ، و ليس إلي ورثة السلطان العثماني عبد الحميد . و بذلك أسدل الستار علي قضية مثيرة مكثت في أروقة القضاء قرابة ربع قرن .